الجنف (انحراف العمود الفقري): دليلك الشامل من التشخيص إلى العلاج المتكامل

بقلم: د. أحمد الشاعر
استشاري العلاج الطبيعي والتغذية – خريج قصر العيني، جامعة القاهرة.
مؤسس مراكز “هيلثي” للعلاج الطبيعي والتغذية في الخليج ومصر.

ما هو الجنف (انحراف العمود الفقري) بالتفصيل؟

العمود الفقري البشري الطبيعي يمتلك انحناءات أمامية وخلفية تساعد في امتصاص الصدمات وتوزيع الوزن. ولكن عند النظر إليه من الخلف، يجب أن يظهر مستقيمًا. يحدث الجنف (Scoliosis) عندما ينحني العمود الفقري جانبيًا، مكونًا منحنى أو أكثر. لا يقتصر الأمر على الانحناء الجانبي فقط، بل غالبًا ما يتضمن دورانًا للفقرات، مما يؤدي إلى تشوه ثلاثي الأبعاد. هذا الدوران هو ما يسبب بروز أحد جانبي القفص الصدري أو أحد لوحي الكتف.

يتم قياس شدة الانحناء بالدرجات باستخدام ما يسمى “زاوية كوب” (Cobb Angle) من خلال صور الأشعة السينية. الانحناء الذي يزيد عن 10 درجات يُعتبر جنفًا. من واقع خبرتنا، فإن فهم طبيعة هذا الانحراف في العمود الفقري هو الخطوة الأولى نحو وضع خطة علاجية ناجحة ومخصصة لكل مريض.

أنواع الجنف: فهم أعمق للحالة

تصنيف الجنف يساعدنا كأخصائيين على تحديد السبب الكامن واختيار استراتيجية العلاج الأنسب. الأنواع الرئيسية تشمل:

• 1. الجنف مجهول السبب (Idiopathic Scoliosis):

  هذا هو النوع الأكثر شيوعًا على الإطلاق، حيث يمثل حوالي 80-85% من جميع الحالات. “مجهول السبب” تعني أن الأطباء لم يحددوا سببًا دقيقًا لحدوثه، على الرغم من وجود نظريات قوية حول العوامل الوراثية. يتم تصنيفه فرعيًا حسب العمر عند التشخيص:

  • جنف الرضع: يظهر من الولادة حتى عمر 3 سنوات.
  • جنف الأطفال: يظهر بين عمر 3 و 10 سنوات.
  • جنف المراهقين: هو الأشهر، ويظهر بين عمر 10 سنوات وحتى توقف نمو الهيكل العظمي.
• 2. الجنف الخلقي (Congenital Scoliosis):

  ينتج عن تشوه في واحدة أو أكثر من الفقرات يحدث أثناء نمو الجنين في الرحم. قد تكون الفقرات غير مكتملة النمو أو غير منفصلة بشكل صحيح. غالبًا ما يتم اكتشاف هذا النوع مبكرًا.

• 3. الجنف العصبي العضلي (Neuromuscular Scoliosis):

  يحدث هذا النوع نتيجة لوجود حالة طبية تؤثر على الأعصاب أو العضلات التي تدعم العمود الفقري، مما يؤدي إلى ضعفها وعدم قدرتها على الحفاظ على استقامته. من الأمثلة على ذلك الشلل الدماغي، الحثل العضلي، أو الشوك المشقوق (السنسنة المشقوقة).

• 4. الجنف التنكسي أو جنف البالغين (Degenerative Scoliosis):

  يظهر هذا النوع عند كبار السن نتيجة لتآكل مفاصل وأقراص العمود الفقري المرتبط بالتقدم في العمر (مثل التهاب المفاصل). يختلف عن الأنواع الأخرى لأنه يتطور في عمود فقري كان مستقيمًا في السابق.

الأعراض والعلامات التحذيرية: كيف تكتشف الجنف مبكرًا؟

غالبًا ما يتطور الجنف تدريجيًا وبدون ألم، مما قد يجعل اكتشافه صعبًا في البداية. لذلك، الملاحظة الدقيقة أمر بالغ الأهمية، خاصة للآباء. إليك أبرز العلامات التي يجب الانتباه إليها:

في البالغين، قد تكون الأعراض مصحوبة بآلام الظهر، التيبس، وفقدان الطول مع مرور الوقت. من المهم التأكيد على أن وجود انحراف العمود الفقري لا يعني بالضرورة وجود ألم، خاصة في المراحل الأولى لدى المراهقين.

رحلة التشخيص الدقيق: كيف نؤكد وجود الجنف؟

في مراكز هيلثي، نتبع نهجًا دقيقًا ومنظمًا لتشخيص الجنف وتقييم شدته، مما يشكل حجر الزاوية في خطة العلاج. تتضمن عملية التشخيص عادةً:

1. 1التاريخ الطبي والفحص السريري:

   نبدأ بسؤال المريض (أو والديه) عن تاريخ ظهور الأعراض، وجود أي ألم، وجود حالات مشابهة في العائلة، وأي حالات طبية أخرى. يتبع ذلك فحص بدني شامل لتقييم استقامة العمود الفقري، توازن الكتفين والوركين، وقوة العضلات وردود الفعل العصبية.

2. 2اختبار الانحناء الأمامي (Adam’s Forward Bend Test):

   هو اختبار بسيط وفعال للغاية. نطلب من المريض الانحناء إلى الأمام من الخصر مع ترك الذراعين تتدليان بحرية. من هذه الزاوية، يمكننا ملاحظة أي عدم تناسق في القفص الصدري أو الظهر، وهو ما يُعرف بـ “الحدبة الضلعية” (Rib Hump)، والتي تشير بقوة إلى وجود جنف العمود الفقري.

3. 3التصوير بالأشعة السينية (X-ray):

   هذه هي الأداة الذهبية لتأكيد التشخيص وتحديد مدى خطورة الانحناء. تسمح لنا صور الأشعة السينية المأخوذة من الأمام والجانب بقياس “زاوية كوب” بدقة، وتحديد موقع وشكل الانحناء، وتقييم درجة النضج العظمي للمريض، وهو عامل حاسم في تحديد احتمالية تطور الانحناء.

4. 4فحوصات إضافية (إذا لزم الأمر):

   في حالات نادرة، خاصة عند وجود أعراض عصبية أو عندما يكون شكل الانحناء غير نمطي، قد نطلب فحوصات تصويرية أكثر تفصيلاً مثل التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) أو التصوير المقطعي المحوسب (CT Scan) لاستبعاد أي مشاكل في الحبل الشوكي أو بنية الفقرات.

استراتيجيات العلاج: من المراقبة إلى التدخل الفعال

يعتمد اختيار العلاج المناسب لانحراف العمود الفقري على عدة عوامل رئيسية: شدة الانحناء (زاوية كوب)، عمر المريض ومرحلة نضجه العظمي، وموقع الانحناء، واحتمالية تفاقم الحالة. هدفنا دائمًا هو اختيار الخيار الأقل تدخلاً والأكثر فعالية.

التعايش مع الجنف: نصائح عملية ودور التغذية

إدارة الجنف لا تقتصر على جلسات العلاج فقط، بل تمتد لتشمل نمط الحياة اليومي. بصفتي استشاريًا في العلاج الطبيعي والتغذية، أؤكد دائمًا على أهمية هذين الجانبين:

نصائح حياتية:

• » الحفاظ على النشاط: ممارسة الرياضة بانتظام، وخاصة السباحة واليوجا (مع تعديلات)، تساعد على تقوية عضلات الجذع وتحسين المرونة.
• » بيئة العمل المريحة: تأكد من أن كرسي ومكتب العمل أو الدراسة يدعمان وضعية جلوس سليمة.
• » حمل الحقائب: استخدم حقيبة ظهر بكلتا الكتفين لتوزيع الوزن بالتساوي، وتجنب الحقائب التي تُحمل على كتف واحد.

دور التغذية السليمة:

صحة العظام أمر بالغ الأهمية، خاصة للمرضى الذين يعانون من انحراف العمود الفقري. نوصي بالتركيز على:

• » الكالسيوم وفيتامين د: ضروريان لبناء عظام قوية. المصادر الجيدة تشمل منتجات الألبان، الخضروات الورقية الخضراء، والأسماك الدهنية، بالإضافة إلى التعرض الصحي للشمس.
• » الحفاظ على وزن صحي: الوزن الزائد يضع ضغطًا إضافيًا على الظهر والعمود الفقري، مما قد يزيد من الشعور بعدم الراحة.

أسئلة شائعة حول الجنف